هذا هي زبدة الطعن في الصك، وكان من المناسب أن نكتفي بها، لكن القاضي هدانا الله وإياه، دس في صكه نصوصا من السنة ضعيفة أو مبتورة، ومن فتاوى علماء ذات سياق زماني أو مكاني محدد، جعلها قواعد قضائية، وقعد فيه قواعد غريبة، لم يسبقه إليها قاض ولا فقيه، فاحتوت حيثياته على زلات كبرى، وفوق ذلك ألصق قواعده بعقيدة السلف الصالح، وبعلم السياسة الشرعية، فلوى أعناق نصوص الشريعة، لتكون قناعا للجبر والجور، وتلك أمور فيها تلبيس على من يجهل شريعة العدل والشورى، وكأن عقيدة السلف الصالح هلال يترآه الراءون خلف الغيوم، وهي إخلال في العقيدة، فضلا عن كونها إخلالا بمبادئ السياسة الشرعية العشرة، فضلا عن وسائلها المعتبرة، في الشريعة المطهرة، وهي تخالف قطعيات الكتاب والسنة، فضلا عن نهج السلف الصالح من الصحابة السابقين ومن تبعهم بإحسان، مخالفة صريحة، وكان لزاما علينا في هذه المذكرة بيانها، وبالله التوفيق.
الحيثية الأولى: لا يسوغ أن ينصح الأمير علانية إلا بإذنه:
أ-تصرف أسامة بن زيد أمام عثمان بن عفان لايبطل أصلا شرعيا قطعيا طبقه الصحابة في عهد النبوة والشيخين أبي بكر وعمر:
بنى القاضي حكمه على أن الإنكار على الولاة يكون سراً لئلا يجر إلى الفتن فقال هدانا الله وإياه"الأصل الشرعي، وهو أن يكون الإنكار على الولاة سرا، لئلا يجر إلى فتنة وبلبلة، بل إلى سفك دم أحيانا، قال الإمام مسلم في صحيحه عن أسامة بن زيد قال قيل له ألا تدخل على عثمان تكلمه فقال اترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم، والله لقد كلمته فيما بيني وبينه، مادون أن أفتتح أمراً لاأحب أن أكون أول من فتحه، ولا أقول لأحد يكون علي أميرا أنه خير الناس، بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((يؤتى بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتاب بطنه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحى فيجتمع إليه اهل النار فيقولون يا فلان مالك ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكرً فيقول بلى قد كنت آمر بالمعروف ولا أتيه و أنهى عن المنكر وآتيه)) قوله ( افتتح أمرا لا أحب أن أكون أول من افتتحه) يعني المجاهرة بالإنكار على الأمراء في الملأ كما جرى لقتلة عثمان رضي الله عنه" من كلام الإمام النووي رحمه الله".
ونقول و الله المستعان، لقد غفل القاضي أصلحنا الله وإياه عن الأمور التالية:
1=القاضي بهذا الكلام يعلن عن جهله بشروط البيعة الشرعية فضلا عن علم السياسة الشرعية ولذلك تخبط فخلط بين الناصح العادي ومطالبة الشعب بحقوقه، ولم يفهم مدلول النصيحة في الأحاديث السياسية.
فالنصح للناس له معنيان:
الأول: النصح بالمعنى العام، معناه الإخلاص والاحتساب والصدق، وهو ما ذكر في قول الرسول صلى الله عليه وسلم"الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم "، وكما في قوله تعالى على لسان شعيب" نصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين".
الثاني: توجيه الناس وإرشادهم في أمور دنياهم وأخراهم.
وكلا الأمرين لا ينطبق على ما نحن فيه، فالسلطان وكيل للأمة، والذين ينبهون وكيلهم إلى ما قصر فيه من حقوقهم؛ لا يعتبرون في فقه السياسة الشرعية، في منزلة ناصحيه، بل مطالبون بحقوقهم،إلا إذا أرشدوه في أموره الشخصية الخاصة به، ولو تنبه القاضي هدانا الله وإياه إلى هذه البديهية في علم السياسة الشرعية،لأراح نفسه من التأويل الفاسد، وتصيد الآثار الضعيفة والشواذ.
2=وقد خلط القاضي وفقنا الله وإياكم وإياه بين نوعين من النصيحة:
الأول: قيام فرد أو جماعة بنصح فردا أو مجموعة معينة من الناس في أمر من أمور دنياهم أو أخراهم، في أمر روحي كالصلاة، أو مدني كالعفة والزكاة، فهذا النمط يسن فيه البدء بالإسرار، كما قال الشافعي رحمنا الله وإياكم وإياه:
تعهدني بنصحك في انفـراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح في الإخوان نوع من التجريح لا أرضى استماعه
الثاني:-قيام فرد أوجماعة بتوجيه الحاكم في أمور الامة عامة او التعبير عن وجهة نظرهم، اومعارضتهم السلمية لسياسته وهذا واجب أو مستحب أو جائز-حسب الحوال- بإتفاق الصحابة رضي الله عنهم ويدل عليه ما وقع من أبي بكر وعمر مع الرسول صلى الله عليه وسلم وما وقع من عمر أمام أبي بكر ومن عائشة امام عثمان و علي ومن الزبير وطلحه وعمار وغيرهم رضي الله عليهم لكن لم يقل أحد من سلف الأمة في فجر الإسلام؛ بوجوب الاكتفاء بالنصح السري. في نصح الأفراد والجماعات، فضلا عن نصح سلطان من السلاطين، وهذا النوع لم يقل أحد من سلف الأمة الراشدي، لا بوجوب بدئها بالإسرار، فضلا عن وجوب الاكتفاء به.
3=بتر القاضي نص النووي، وأخذ منه ما يوافق هواه، وترك ما عداه، فأسقط بقية قول النووي رحمه الله "
وفيه الأدب مع الأمراء واللطف بهم ووعظهم سراً وتبليغهم ما يقول الناس ليكفوا عنه، وهذا كله إذا أمكن ذلك، فإن لم يمكن الوعظ سراً والإنكار؛ فليفعله علانية، لئلا يضيع أصل الحق" (انظر شرح النووي صحيح مسلم (18/118) باب حفظ اللسان) . فكلام النووي رحمه الله لا يصح الاستدلال به على حرمة المطالبة العلنية بالحقوق، بل على مشروعية المطالبة السرية إذا كانت الطرق إليها ميسورة، والنتائج متحققة منظورة، وليس فيها جانب خوف وخطورة، ولم تكن الحجب مقامة و لا الأبواب موصدة، فإذا لم تتوافر هذه الصورة، فلا بد من علانية الإنكار بأي صورة سلمية كانت، "لكيلا لا يضيع أصل الحق" كما نص النووي.
4= إنكار المنكرات سلطانية أو مجتمعية، ومشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد واللسان قاعدة شرعية قطعية، وركن من أركان العقيدة الإسلامية، لا تخصص ولا تقيد إلا بماهو قطعي من الكتاب والسنة يخصص أو يقيد.
لا صحة لتأويل القاضي هدانا الله وإياكم وإياه؛ لأنه يخالف قاعدة قطعية؛ هي مشروعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر)النصيحة لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم والأصل علانية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5=وإنكار المنكرات السلطانية هو ماجرى عليه الصحابة في عهد الشيخين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وليس زيد بن ثابت بأفضل منهما، ولا يصح تقييد مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالسرية؛ بناءا على هذا الأثر الواهي، الذي لا ينقض شذوذه إجماع الصحابة.
لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينكرون على الأمراء في الامور السياسية والمدنية والروحية أي خروج عن السنة المتواترة، كعدم رفع اليدين في الدعاء، فلما قام مروان بن الحكم خطيباً فرفع يديه في الدعاء؛أنكر عليه من أنكر، بقوله: قبحها الله من يدين لم يكن يرفعها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بدعاء الاستسقاء ثم عقب على المنكر أحد الصحابة بقوله أما هذا فقد أدى ما عليه.
وما فعله أسامة بن زيد منقوض بما فعله جمهور الصحابة ومنهم عائشة والزبير وطلحة وأبو ذر وعمر بن الخطاب وعمار بن ياسر وغيرهم كثير، وهو الإنكار العلني، فقد أنكروا علانية على بعض الخلفاء والأمراء، كعمر وعثمان وعلي فضلا عن معاوية ومروان بن الحكم، ومحفوظ من مواقفهم في كتب الحديث والسير؛أكثر من مئة موقف، ولقد أنكرت عائشة رضي الله عنها على عثمان رضي الله عنه جهارا وعلانية حيث قالت"خصصت بيت مال المسلمين لنفسك وأطلقت أيدي بني أمية على أموال المسلمين ووليتهم البلاد وتركت أمة محمد في ضيق وعسر قطع الله عنك بركات السماء وحرمك خيرات الأرض".فكيف يترك القاضي الطريق اللاحب، ويتصيد الشوارد؟. ومن ذلك إنكار عمر بن الخطاب وعائشة وأبي ذر وعبادة بن الصامت وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم بعض التصرفات المالية والإدارية والخطط السياسية، بل ومعارضتهم إياها، ورفع صوتهم بذلك.
6=مانسبه إلى أسامة بن زيد لم يصح فقد ضعفه أهل الحديث، ومنهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، فالاحتجاج به باطل، ولو افترضنا أن فيهم من قواه لبطل به الاستدلال أيضا، لأن القاعدة الأصولية تقول: ما داخله الاحتمال بطل به الاستدلال.
ليس أسامة بن زيد مشرعاً من قبل الحق جلا وعلا الذي قال في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض). والآية تمتد أفقيا نحو ولاية الأخ على أخيه أو على أخته ورأسيا من الكبير على الصغير ومن الحاكم على المجتمع ومن المجتمع على الحاكم.
ومن المعروف –في علم أصول الفقه-أن الصحابي إذا خالف غيره، لم يقدم الأخذ برأيه على من هو أعرف منه بالسنة.
6=فالنصوص والمواقف متضافرة؛ على وجوب الإنكار، فلم يقل أحد بعدم وجوب الإنكار باللسان، وإنما الخلاف في جواز الإنكار باليد، كما بين الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب في كتابه (جواب أهل السنة).
أما تقويم الحاكم ومطالبته وأمره ونهيه علانية فقد ثبت عن جمع من الصحابة، فكيف القاضي يتصور أن الإمام النووي يوجب أن يكون أمر الحاكم ونهيه سرا، وهذا يدل على ان القاضي هدانا الله واياه لم يدرك ان النووي كابن حزم والفقهاء الأمويين، من صقور الفقهاء الذين أوجبوا الشورى، وأجازوا إنكار المنكرات السلطانية باليد. ولا يصح رفض هذه النصوص المتواترة عن صحابة رسول الله، بتصيد الزلات العابرة، والأقوال الشاردة.
ب=حتى إنكار التعذيب الوحشي أوجب القاضي أن يكون سرا:
ويمضي القاضي في تصيد الشوارد، التي يقتنصها ليؤسس عليها القواعد، ولو خالفت صريح الشريعة، وما أوحاه الله للبشر وأودعه في الفطرة والطبيعة، فيقرر أن إنكار التعذيب_أيضا-يجب أن يكون سرا، فيقول: أرشدنا الله وإياكم وإياه"قال الامام احمد في مسنده من حديث شريح بن عبيد الحضرمي وغيره قال جلد عياض بن غنم صاحب دارا حين فتحت فأغلظ له هشام بن حكيم القول حتى غضب عياض ثم مكث ليالي فأتاه هشام بن حكيم فاعتذر ثم قال هشام لعياض ألم تسمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول (( إن من اشد الناس عذاباً اشدهم عذاباً في الدنيا للناس)) فقال عياض بن غنم يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت أولم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( من اراد ان ينصح السلطان بامر فلا يبده له علانية)) ولكن لياخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك و إلا كان قد ادى الذي عليه له)) وعياض وهشام كلهما صحابيان جليلان قال الهيثمي في المجمع قلت في الصحيح طرف منه من حديث هشام فقط...الخ ولهذا الحديث طرق كثيرة".
ثم قال: "وهذا الحديث في النصح سراً للولاة ورد على مسألة تعذيب الوالي لبعض الناس وعليه فإن السرية في نصح السطان من حقوقه مالم يسمح بالعلنية في نصيحة بأي طريقة يرضاها".
ونقول وبالله التوفيق إن استدلال القاضي بهذا الحديث باطل، للأسباب التالية:
1= أن ما يفيد مشروعية النصيحة السرية في الحديث زيادة مرسلة شاذة، حذف منها القاضي ما يدل على أنها موضوعة، تدليسا على من سيطلع على الصك، لأن حديث عياض الذي ورد في صحيح مسلم هو(إن من أشد الناس عذاباً يوم القيامة أشدهم عذباً في الدنيا للناس)أما الزيادة التي نصها فقال عياض بن غنم يا هشام بن حكيم قد سمعنا ما سمعت ورأينا ما رأيت ولم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (( من اراد ان ينصح السلطان بامر فلا يبده له علانية)) ولكن لياخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك و إلا كان قد ادى الذي عليه له)) فقدضعفها كثير من أهل العلم. فقال الشيخ شعيب الأرناؤوط عن هذا الحديث: اسناده ضعيف لانقطاعه، وشريح بن عبيد الحضرمي لم يذكروا له سماعه من عياض ولا من هشام
وقد حذف منها القاضي -هدانا الله وإياه-ما يدل لا على ضعفها فحسب، بل ما يدل على أنها موضوعة، فهي بتمامها" ...أو لم تسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من أرادأن ينصح بسلطان بأمر فلا يبدأ له علانية ولكن يأخذ بيده فيخلوا به فإن قبل منه فذاك وإلا كان قد أدى الذي عليه له وإنك ياهشام لأنت الجرئ إذ تجترئ على سلطان الله فهلا خشيت أن يقتلك السلطان فتكون قتيل سلطان الله تبارك وتعالى.(انظرمسند الإمام أحمد بن حنبل (3/403)حديث رقم(15369). ترى لم لم يسأل القاضي نفسه، عن عبارات مثل:سلطان الله، وقتيل سلطان الله، هل يمكن أن ترد في حديث صحيح، اتق الله ايها القاضي.هذا حديث موضوع يا أيها القاضي الفاضل، لا يجسد خليفة أو وزيرا أو أميرا إسلاميا ينيبه الشعب ويراقبه ويحاسبه في الدنيا، قبل حساب الله في الأخرى بل يجسد فرعونا وقيصرا ودكتاتورا، يدعي أن الله هو الذي ولاه، وأنه لا يحاسبه إلا إياه، وان اسلوب الامة لإصلاحه هو الدعاء والبكاء.
ونتساءل لماذا خلط القاضي الأصل الثابت بالزيادة الضعيفة؟، ولماذا حذف من الزيادة ما يدل على ضعفها وتهافتها؟،أليس ذلك لكي يحكم بما لم يثبت منها على ما ثبت فيوهم محكمة التمييز بأنها جميعها صحيحة؟.
إن من له أدنى نظر بعلم الجرح والتعديل وبنقد المتن وبأصول الفقه ومبحث التعارض والترجيح، يدرك أن هذه الزيادة شاذة مرسلة.
انها مفارقة عجيبة.الرسول الذي لاينطق عن الهوى يقول أفضل الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان جائر فأمره ونهاه فقتله فيجعل المجاهد المناضل من يقتل بسبب احتسابه ونيابته عن الأمة في انكار منكرات السلطان والمطالبة بالحكم الشوري العادل افضل الشهداء، ثم يأتي قاض بعد أربعة عشر قرنا، ويحذرنا من أن نكون من من يقتله سلطان الله، لا يقارب هذه المفارقة في الغرابة إلا اعتباره الشرط الذين يتشاهدون على المحتسبين، كأهل الحسبة، وتجريمه كل من يطالب بحقوقه، فضلا عن من يأمر السلطان و ينهاه، وحكمه على المحتسبين بأنهم مجرمون!!!.
بل الحديث الصحيح .. أن عياض بن غنم رأى نبطاً يشمسون في الجزية فقال إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ((إن الله تبارك وتعالى يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا))رواه الإمام أحمد في المسند (3/404) رقم (15370)،قال الشيخ شعيب الإرناؤوط : إسناده صحيح على شرط مسلم .وهذا دليل على إنكار عياض بن غنم علانية على من عذب النبط، وهذا يتوافق مع ما قام به النسوة المعتصمات لإنكار التعذيب في السجون.
2=ولا ندري كيف يقدم الدعاة اليوم الإسلام، عندما يجدون مثل هذا الصك، الذي يسوغ الظلم السياسي ويجرم إنكاره، بل ولا ندري كيف تحارب الإمبريالية والفرنجة بمثل هذا الخطاب الديني المحرف عن منهج الشريعة الذي ارتضاه الخالق سبحانه وتعالى لعبادة، بل ولا ندري كيف يقنع أهل العنف بإلقاء السلاح، والتزام الأسلوب السلمي في المطالبة بالتغيير، وإنكار المنكرات السلطانية، وهم يجدون قضاء يجرم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان، ويجرم مطالبة وزارة الداخلية وتقليم أظافرالبوليس، الذي ينهش ويفترس، من دون رقيب ولا حسيب إلا ضميرها؟.
اتق الله ايها القاضي، حتى انكار التعذيب يجب ان يكون سرا.
وبمثل هذه الترهات ضاعت مبادئ السياسة الشرعية، وصار في الشورى قولان، وفي التعذيب ثلاثة أقوال، وصار إنكار المنكرات السلطانية من مثيرات الفوضى والفتن..
3=إن القول بأن السرية حق من حقوق السلطان مفردة من مفردات الفكر السياسي العباسي البائد، هي ضرب لحقوق الإنسان بحقوق السلطان، ولم يقل بذلك أحد من الصحابة، بل الذي ثبت عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم خلافه، كما ذكرنا عن عمر بن الخطاب وعائشة والزبير وطلحة بن عبيد الله وعلي بن أبي طالب،وغيرهم كثير.
ج= القول بأن من حق السلطان أن لا ينصح إلا سرا؛ باطل:
ومضى القاضي في استثمار النصوص الضعيفة والمتشابهة لضرب مقاصد الشريعة القطعية، التي دلت عليها الأدلة الصحيحة الصريحة لفظية ومعنوية، فقال أيضا: "واخرج ابن ابي عاصم في كتاب السنة باب كيفية نصيحة الرعية للولاة من طريق شريح بن عبيد قال قال عياض بن غنم لهشام بن حكيم ألم تسمع قول الرسول صلى الله عليه وسلم ( من اراد ان ينصح لذي سلطان فلا يبده علانية ولكن يأخذ بيده فيخلو به فإن قبل منه فذاك و إلا كان قد ادى الذي عليه له) و اسناده صحيح كما قال الألباني في تخريجه لكتاب السنة".
ونقول والله المستعان على جور القاضي، إن الرد على ذلك من وجوه:
1= ماذكره القاضي عن ابن أبي عاصم وكتابه السنة باب كيفية نصيحة الرعية للولاة من طريق شريح بن عبيد فهو ليس حجة فابن أبي عاصم ليس من الخلفاء الراشدين ولا من التابعين.أما هذا الحديث الذي ذكر القاضي أن الألباني صححه ففي تصحيحه نظر. فقد طعن في صحته كثير من المحدثين، بطعون يعرفها من له إلمام بعلم الحديث والجرح والتعديل، ولا نطالب القاضي بأن يكون من علماء الجرح والتعديل، ليعرف هذه الطعون، ولن نرهق هيئة التمييز بها، ولكننا نتساءل: لماذا يترك النصوص والمواقف المشهورة الصحيحة التي تقرر السيادة والسلطة للأمة، ويبحث عن الأدلة التي تزعم انه ولي ولاه الله على الأمة، لا ينصح علنا إلا بإذنه، وهي ذات إشكال أو احتمال، لماذا ترك أقوال علماء الحديث الكثيرة التي تضعف هذا الحديث وذهب إلى قول أحدهم، والألباني رحمنا الله وإياه من من عرف بالتساهل في تصحيح الحديث.
وكيف يترك القاضي النصوص الكثيرة الصريحة التي تدل على الشفافية والعلانية، في معارضة الحاكم ومحاورته، ومطالبته بالحقوق، ثم يأتي القاضي فيسمي مطالبة الموكلين وكيلهم بحقوقهم مناصحة، ويوجب-فوق ذلك أن تكون المناصحة سرا، ويترك نصوص القرآن والسنة الكثيرة التي تفيد أن الأمة هي التي تأمر الحاكم وتنهاه، كما في الحديث الصحيح "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر، فأمره ونهاه فقتله" وقوله صلى الله عليه وسلم لتأطرنهم على الحق أطرا، ولتقصرنهم ...قصرا".
فكيف ضاقت بالقاضي السبل حتى يبحث عن نص يصححه الألباني رحما الله وإياه بعد عشرة قرون من وفاة ابن خزيمة وإضرابه. ولا يدرك ان قاعدة النصح السري للسلطان لم يرد إلا في فترة ما بعد العهد النبوي والراشدي التي سمي فيها السلطان ولي الامر، بدلا من ولاية الأمةعلى نفسها، والنصوص والمواقف تقرر أن العلانية هي الأصل، وهذا يدل على أن القاضي ضاق ذرعا بالنصوص المحكمات، فلجأ إلى المتشابهات.
2=من ذلك ماجاء في قبول المصطفى صلى الله عليه وسلم الاعتراض على مايقوله أو يفعله ورده على الحجة بالحجة وعدم غضبه لذلك وهو من قبول النصيحة علانية وذلك كثير ومنها ،كقول بعضهم له عليه الصلاه والسلام "ماعدلت يامحمد وأقسم بالعدل يامحمد أمام الناس" وقول أحدهم له صلوات الله وسلامه عليه "ألانه ابن عمتك"، ولم يقل لهم صلى الله عليه وسلم لماذا تجابهونني علانية ولماذا تعترضون على أحكامي علانية، وعليكم بسرية المعارضة، مالم آذن لكم بالعلانية.
ولم يقل عمر بن الخطاب ولا أحد من الصحابة للمرأة التي اعترضت على رغبته في تحديد المهور: هلا همست في أذن زوجتي، بدلا من نصحي علنا، أو اسكتي ولا تعرضي نفسك للتكشف والقول فيك، والزمي بيتك فإن صوتك عورة.
بل إن عمر بن الخطاب لم يقل لمن قال له في المسجد جهارا أمام الملأ: إن انحرفت قومناك بسيوفنا، لا تنصحني إلا سرا، بل قال قولته الشهيرة: الحمد لله الذي جعل في أمة محمد من يقومني.أفلا يسع القاضي الاستدلال بهذه المواقف المضيئة، بدلا من التنقيب عن الأحاديث المنقطعة والضعيفة؟
3=قال صلى الله عليه وسلم : إذا هابت أمتي أن تقول للظالم ياظالم فقد تودع منها " ألا يقال للبوليس والمباحث التي تعذب الناس اتقوا الله، بيننا وبين الحاكم بيعة شرعية على العدل والشورى، لا على الظلم والاستبداد، فلا تنقضوها باسم الحفاظ على الأمن، فإن العدل أساس الأمن، وإن الظلم مصدر الفتن .
ومن ذلك ما ورد في مسلم بسنده عن صالح بن كيسان عن الحارث عن جعفر بن عبد الله بن الحكم عن عبد الرحمن بن المسور عن أبي عن رافع عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ثم أنه تخلف من بعدهم خلوف يقولون مالا يفعلون ويفعلون مالا يقولون ويفعلون مالا يؤمرون فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل " صحيح مسلم كتاب الإيمان /20 باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان ج 80 وقد ذكره البخاري . وهذا الحديث لا يلزم منه إثارة فتنة ولا تعارض بينه، وبين الصبر على جور الولاة، لان الصبر على جور الولاة، معناه التحذير من حمل السلاح،وتشريع المطالبة السلمية لا الانبطاح أمام المنكرات ولا يعني ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهذا ينطبق بالتأكيد على تعذيب المباحث للسجناء الواردة أسماء بعض قريباتهم في الصك.