هذا ما قال القاضي أما نحن المحتسبين فنقول: إن تسبيب القاضي فيه نظر،كما يلي

1=إن من الواضح أن القاضي بعد أن احتمى بسور السلف الصالح، وضرب منهجهم بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، واستثمرأحداث الفتنة في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، من دون خلفية في تحليل التاريخ،استرسل في سياق أحداث الجزائر، من دون بصيرة سياسية،فأخذ يفسرالمواقف، من دون بصيرة، لا في علم السياسة ولا في علم الحضارة ولا في علم الاجتماع السياسي، ومن أجل ذلك صار يقرأ نصوص الكتاب والسنة من دون زجاجة ولا مشكاة، ولا مسطرة أمان حرياً به إذن الخطأ والغلط.

2=وكلام القاضي في هذه القضية غير صحيح جملة وتفصيلا لأن ترك إنكار المنكرات العامة وتكميم الأفواه عن الصدع بكلمة الحق هو السبب الرئيس الذي يقف خلف كثير من الفتن التي وقعتت في البلاد العربية وليس الإنكار العلني.

2=وينبغي للقاضي أن يتفطن لهذه الحقيقة التي غفل عنها وهي أن ما وقع  من الإنكار على الخلفاء الراشدين جميعاً من قبل الصحابة لم يؤد لما ذكر من الفتن إنه من المعلوم في جميع النظم السياسية أن إتاحة المجال للتعبير السلمي إنما هو صمام أمان عن وقوع الانفجارات السياسية .إن ما استنتجه القاضي مخالف لما فهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سمحوا بالإنكار العلني والنصيحة العلنية فهل من بعدهم أفقه منهم، وهل موجبو سرية النصح أحرص منهم  على استتباب الأمن في المجتمع الإسلامي ؟.

3=القاضي يستدل بالفتاوى الآنية والانطباعية، التي جاءت جوابا لسؤال موجه محدد، والفتاوى ليست أحكاماً وقواعد وأدلة يبني عليها حكم قضائي لأن الحكم القضائي يجب أن يستند إلى قاعدة قضائية، أما الفتوى فهي متغيرة تدور حسب ظروفها الآتية، وهي غير مستقرة على قواعد، والفقهاء السعوديون على العموم والرسميون منهم على الخصوص، ليسوا من ذوي البصائر في السياسة الشرعية، ولا في أليات الدولة الحديثة، والدليل الواضح على ذلك أن جهاز القضاء الذي أداروه، يعاني من معوقات كبرى، وخلل في ضمانات العدالة والنزاهة.

 وهم في عديد من الحالات يفتون بتحريم شيء أو بتجريمه، وعندما تفعله الدولة يسكتون عنه أو يبررونه.ولا أدل على ذلك من الفتاوى التي ظهرت حين ظهور لجنة حقوق الإنسان عام 1413هـ بالتحريم ثم ما لبثت أن أجيزت فيما بعد، وكما وقع لكثير من الأمور لا تخفى على مطلع.

  والشيخان ابن باز وابن عثيمين كغيرهما من من سلك هذا المسلك، ولا يحتج بهما على صريح الكتاب والسنة، ولا على قواعد السياسة التي ثبت نجاحها في كل أمة وملة، بل يحتج لهما،فليس كلامهما كإجماع الصحابة ليحتج به، والفتوى ليست قضاء ولا يستدل بها في القضاء وذلك لأن الواجب على القاضي العمل بما نص عليه الكتاب والسنة وبما التزم به ولي الأمر من معاهدات وأنظمة ذلك أن القاضي يلزمه أن يحكم باجتهاده لا باجتهاد غيره وينبغي له أن يسبب بنصوص القرآن والسنة، أو بقواعد علوم السياسة والحضارة، لا بأقوال الناس المرسلة من البراهين، ومن التجارب الإنسانية.

4= وقد تجاهل القاضي أننا لم ندع النساء لا إلى الإعتصام ولا إلى المظاهرات وأن النسوة اعتصمن من أنفسهن،معترضات على تعذيب المباحث أزواجهن مطالبات بإيقاف التعذيب وإحالة ازواجهن للقضاء للحكم بما انزل الله من عدل وإنصاف، فهل المطالبة بتطبيق حكم الشرع في نظر القاضي جريمة مخزية أوفعل حرام؟ ولسنا أمام نصيحة .. وإنما هؤلاء النسوة يطالبن بوقف تعذيب المباحث لأزواجهن وإطلاق سراحهم أو إحالتهم إلى القضاء.

أما إن كثيراً من الفقهاء من أهل العصور الماضية لم يتعرفوا على مدى نجاح الوسائل السلمية في صيانة الدولة و المجتمع من الضعف والانحلال والطغيان، فلم تكن ترسخ في ثقافتهم أعراف سياسية، لترسيخ الحكم الشوري العادل وصيانته، ومراقبة الحاكم ومحاسبته، تكون وسطا بين حالة الاستسلام وحالة حمل لسلاح وهذه علامة نضج سياسي يبدو أن القاضي لا يعرفها، ولذلك لم يثمن فوائدها.

ولمزيد من بيان حكم العمل السلمي في الإسلام نرفق الكتب والأبحاث التالية:

1=حكم المظاهرات والاعتصام في الإسلام: د/عبد الحميد المبارك

2=حقوق الإنسان في الإسلام: د/عبد الله الحامد(أبوبلال)

رابعة الحيثيات:سد ذرائع الفساد يقتضي تحريم خروج النساء والرجال لمثل هذه الاعتصاماتل

*قال القاضي هدانا الله وإياكم وإياه في حيثيات التجريم:  "اما الأصل الثالث في هذه القضية فهو سد الذرائع الموصلة للفساد او المجرئة عليه: ومن ذلك سد ذرائع خروج النساء أو الرجال؛ بمثل هذه الاعتصامات، لئلا تجر إلى فساد أعظم ونحوه مستقبلاً".

ونقول وبالله التوفيق: هل تجمع النساء للمطالبة بحقوق ذويهن الشرعية يفض الى الفساد أم ان الفساد هو في تعذيب ازواجهن واستمرار سجنهم دون احالتهم الى القضاء الشرعي ثم إن ما قامت به هذه النساء هو الذي يؤدي في حقيقة الأمر إلى سد الذرائع الموصلة للفساد وليس تجريم هذا الفعل وبيان ذلك كالتالي :

 1=أن هذه النسوة وجميع أهالي المعذبين في المعتقلات قد أرهقهم وزلزل عقولهم وهيج مشاعرهم تعذيب أبنائهم وآبائهم والزج بهم في غياهب السجون، من دون محاكمات ولا ضمانات عدلية، وقد جربوا جميع الأساليب التي توقعوا أن تفيدهم في رفع هذه المظالم، ومن ذلك رفع الأمر إلى المسئولين والعلماء و القضاة وكتابة البرقيات ونحو ذلك، وحرموا حتى من الإحالة إلى القضاء، ولم يتبق أمامهم إلا الاعتصام أمام مبنى المباحث.

 2=ونظراً لكون الاعتصام أمام المباحث يعتبر في نظر المباحث جريمة فإن كلا من النساء والرجال علموا أن فعل الرجال لذلك الأمر لن ينفع بل سيزيد الطين حيث سيعتقل الرجال ويعذبون كذلك، وقد يتهمون بالعنف، ولن يجدوا من يطالب بحقوقهم أو بإحالتهم إلى القضاء فلم يجدوا بدا من التوقف عن هذه الخطوة.

 وحينما وجدت النساء أن أزواجهن وآبائهن معتقلين ويعذبون في معتقلاتهم وأن الرجال الباقين من أقاربهن عاجزين، وأن الوسطاء من الأعيان والفقهاء مردودين، ولن تجدي شفاعتهم شيئاً لجأن إلى الاعتصام لأنهن يعلمن أن المباحث لن يستسهلوا اعتقالهن، ولا تعذيبهن، فضلا عن تلفيق التهم عليهن، ولو اعتقلوهن، لأثاروا النار في هشيم جاهز من التوتر، لأنه لا يمكن للمباحث أن تلبس أمر اعتصام النسوة على الناس، كأن تقول عنهن إنهن إرهابيات أو إنهن يردن الفساد.

فمن باب سد الذرائع قامت النساء بهذا الاعتصام حتى لا يستفحل الأمر فيتبرم جميع الناس الذين تصلهم بهؤلاء المعتقلين صلة قرابة، والمهتمين بالشأن العام، وقد يؤدي الأمر إلى تفاعلات، تصب في تردي العلاقة بين ولاة الأمر والشعب،ولذلك فإنه من باب سد الذرائع قامت النساء بهذا الفعل حتى يقفل الباب عن أي فعل يحتمل أن تؤدي إليه حالة الضيق التي يحس بها أولياء أمور هؤلاء المعتقلين وان سد الذرائع يكون بإيقاف التعذيب ومحاسبة من قام به وليس من باب سد الذرائع السكوت عن تعذيب البشر.

إن التطبيق الصحيح لقاعدة سد الذرائع؛ هو فتح ملفات حقوق الإنسان، وإيقاف التعذيب، وإطلاق سراح المسجونين أو إحالتهم إلى محاكمات علنية بضمانات عدلية.

إن تطبيق القاضي المقلوب لقاعدة سد الذرائع؛ لا يدل على إدراك صحيح لها أصوليا، ولا على إدراك لواقع الدولة الحديثة، ولمزيد من إيضاح الصورة، سنبعث الكتب والأبحاث التالية:

1=منهج فقه الكتاب والسنة/المصباح في زجاجة ومشكاة: د/.عبد الله الحامد(أبوبلال).

2=نحو صياغة للعقيدة ومقاصدها تصد التحدي الإفرنجي الإمبريالي:العدل عديل الصلاة./د.عبد الله الحامد.
 
خامسة الحيثيات: هدف دعوات حقوق الإنسان

 تمرير المنكرات والهجوم على الشريعة:

 قال القاضي هدانا الله وإياكم وإياه في حيثيات التجريم: "اما الأصل الرابع في هذه القضية فهو ان من له ادنى نظر يعلم اننا في زمن فتن كثيرة من حولنا وفي داخلنا يتبين ذلك بما يحصل في بعض دول الجوار من الانشقاق والأختلاف بل والقتل واستغلال ضعاف النفوس زمن الفتن لتمرير الدعوة للمنكرات بأسم حقوق الإنسان وحرية التعبير والتفكير ونحو ذلك من الشعارات البراقة المغرية بالأمل الباعثة على الإحترام وهي في حقيقتها هجوم على الشريعة والأحكام لادعوة حقوق الإنسان.

 ومايتوقع حصوله ومايحصل من تفجيرات والمخرج من الفتن؛ ليس في إعلان إنكار المنكر على السلطان في الشوارع، إن كان ثم منكر وليس في تعداد أخطائه على الملأ، لأنه في زمن الفتن بعض النفوس مستشرفة لها متطلعة إليها، تطيش بعض العقول فيها، لا بل تكون مدافعة الفتن بكثرة في العبادة، والاعتصام بحبل الله جميعا، وبيان المنكر سرا وتكرار ذلك سرا، حتى يقضي الله جل وعز امره.

 إذ المظاهرات والاعتصامات وإعلان المنكرات وإن كانت سلمية حسب الزعم لكنها الشرارة الاولى لما بعدها، خصوصا وقت الفتن. والفتنة إذا اقبلت تشبهت وإذا ادبرت تبينت، نسأل الله العفو والعافية".

ونقول وبالله التوفيق:

1=أن هذا التعبير الذي ذكره القاضي هدانا الله وإياكم وإياه؛فيه مصادرة على المطلوب كما يقول علماء الأصول وذلك لأنه من المسلم به عند الجميع أن تكميم الأفواه سبب رئيس من أسباب العنف ولذلك قال الرئيس الأمريكي الأسبق: أي دولة تجعل التعبير السلمي مستحيلاً تجعل التغيير الثوري حتمياً. وهذه حكمة والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها.

 ولذلك فإنه القاضي يجسد في هجومه على دعوتنا السلفية الوسطى: العدل عديل الصلاة، موقف الفقهاء غير البصراء بعلم السياسة، الذين يهاجون الأشياء ويحكم عليها من دون معرفة بها، والحكم على الشيء إنما هو فرع عن تصوره،ينبغي للقاضي أن يدرك ماهي حقوق الإنسان، قبل أن يهاجمها، وأن يدرك أن أهمها استقلال القضاء عن هوى الولاة، حتى يستطيعوا أن يحكموا بما يعتقدون صحته لا بما يملى أو يفرض عليهم، وضمان حقوق المتهم والسجين، ووجود أجهزة تراقب الإدارة والتربية وسبل صرف بيت المال، وأن يدرك هو ومن لايزال يعيش في ظلال نظرية ولي الأمر الأعظم،-وفق المصطلح الذي ابتدعه،ولا نعرف ان احدا سبقه، بل إن الفقهاء الذين استشهد بهم كابن عثيمين  أدانوه، كما بين وكيلنا الأستاذ الدكتور عبد الكريم الخضر، في بحث ولي الأمر-أن الاعتصامات ليست سببا للفتن ومن يقرأ في تاريخ الشعوب والحضارة؛ ليدرك أن سبب الفتن تكميم الأفواه ومنع التعبير السلمي عن الإرادة سواء في الاعتصامات أو غيرها من وسائل التعبير والرفض السلمية.

وان يدرك أن أهم أسباب الفتن هي انتهاكات حقوق الإنسان،كفشو الظلم والمحسوبية واختلال المساواة ونهب الأموال والثروات وتولية الأقرباء وغير الأكفياء، وتقديمهم على الاكفاء، واحتقار الأمة والوصاية عليها، والتهاون بحقوق الناس المشروعة، وعقد اتفاقات مع الدول الأجنبية من وراء ظهر الأمة.

هل يتصور القاضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دعا إلى الإسلام، كان يدعو إلى إسلام لاحقوق للإنسان فيه، أو يدعو إلى إقامة صلاة، منفصلة عن إقامة العدل والشورى، وإعطاء الناس حقوقهم، وإنصاف المظلومين.

 واذا سلمنا بقاعدة القاضي فكل داع الى العدالة ورفع الظلم والجورعن عباد الله المستضعفين من الرسل والأنبياء والمصلحين ودعاة القسط فهو داع الى فتنة.

 ولذلك فإنه ينبغي تشجيع مثل هذه الأفعال لا تجريمها أو تحريمها وإن مراجعة التاريخ السياسي لجميع الدول المعاصرة تلهم كل منصف أن تلك الدول التي كانت تعتمد على سياسة تكميم الأفواه ومنع التعبير السلمي دول زالت أو تصدعت بينما الدول التي فتحت المجال أمام التعبير السلمي فإنها دول قويت وتماسكت والتحمت فيها القيادة بالشعب وخير مثال لذلك ما حصل للدولة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين حيث فتحت باب التعبير السلمي على مصرعيه بينما وجدنا دولة الفرس والروم قد تهاوت وسقطت بسبب اعتمادها لسياسة القمع والإرهاب الفكري على شعوبها .

ولذلك فإن ما استدل بها القاضي من أحوال الدول المجاورة،استدلال في غير محله، لأن الجزائر لم يكن ليحصل ما حصل منها إلا بسبب قيام دول الفرنجة عموما وفرنسا خصوصا، بتمكين العسكر، لكي تبقى الجزائر في فوضى، ولكي لا يصل الإسلاميون إلى الحكم، كما وصلوا في تركيا، ولكي تؤدي سياسة القمع وتكميم الأفواه وعدم السماح بالتعبير السلمي فيها، إلى الفتن والعنف والإرهاب، والفقر والخراب أما الدول المجاورة التي سمحت بالتعبير السلمي عن الأراء والأفكار، وحاسبت المقصرين في وضح النهار، وأتاحت المجال لذلك فإنها لا تزال دولا متماسكة قوية لم تزدها مثل هذه الأساليب السلمية إلا قوةً وتمكينا.ونأمل أن لا يغيب ذلك عن إدراك القاضي، فإن لم يتذكر :