المحكمة برئاسة
المستشار الدكتور محمد أحمد عطية «نائب رئيس مجلس الدولة» رئيس محاكم القضاء الإداري
ومن حيث إن المجلة المسماة إبداع نشرت ما أسمته بقصيدة شعرية بعنوان «شرفة ليلي مراد» ورد بها ألفاظ تسيء إلي رب العالمين ومن ثم فإن ما أتته هذه المجلة بنشر هذه الألفاظ يباعد بينها وبين رسالة الصحافة، بحيث أصبح انتساب هذه المجلة إلي الصحافة المصرية ضربا من ضروب الامتهان ويباعد بينها وبين الهدف المنشود من ترخيصها بنشر الإبداع الذي تجود به قرائح الشعراء المبدعين حقا وأضافت المحكمة أن المجلة هي الأداة التي ارتكبت بها هذه الجريمة في حق الله وفي حق معتقدات ومقدسات أبناء هذا الوطن وهي الوسيلة التي ارتكبت بها هذه الجريمة النكراء، ومن غير المتصور عقلا أن هذا العمل نشر عبثا دون أن يمر علي القائمين علي تقييم مثل هذه الأعمال لتقرير نشرها، الأمر الذي يؤكد أن بعضا من أولئك لديهم القناعة والاستعداد لنشر مثل هذا الإسفاف المتطاول علي رب العزة والجلال، ولا يؤثر علي ذلك أن كثيرا أو قليلا مما ينشر في هذه المجلة يعد تعبيرا عن حرية الرأي ويمثل طاقة نور، ذلك أن درء المفاسد أولي من جلب المنافع، ولا ينال بما رددته الإدارة من أن مصادرة الصحف والمجلات أو وقف تصديرها محظور ذلك أن المحكمة تؤكد علي أن ذلك الحظر مقصود علي المصادرة أو الإلغاء بالطريق الإداري، وليس قرار الترخيص بإصدار المجلة حصينا علي الإلغاء القضائي، إذا ما قامت موجباته وإزاء ما تبين للمحكمة أن هناك اتجاها يتزايد كل يوم نحو الاستهانة بكثير من القيم والثوابت التي عاشت في نفوس المصريين منذ زمن طويل وإن ذلك لم يعد قاصرا علي الصحف وحدها، بل بدأ يتسلل إلي العديد من أجهزة الإعلام وأدوات الثقافة في مصر فإنها تهيب بالجميع أن يتقوا الله في هذا الوطن وفي مستقبل أبنائه ليتعاون الجميع فيما يبني ويعالج مواطن الخلل ويؤكد علي الثوابت الراسخة في المجتمع المصري.
1- أحمد عبد المعطي حجازي، بصفته رئيس تحرير مجلة إبداع
2- الهيئة العامة للكتاب
3- وزير الثقافة بصفته الرئيس الأعلي للهيئة العامة للكتاب
4- رئيس مجلس الشوري بصفته
5- شيخ الأزهر بصفته «خصم مدخل»
6- النائب العام بصفته «خصم مدخل»
أقام المدعي هذه الدعوي بإيداع عريضتها قلم كتاب المحكمة بتاريخ 18/4/2007 طالبا في ختامها الحكم بصفة مستعجلة بوقف نشر مجلة «إبداع» وتنفيذ الحكم بمسودته دون إعلام وفي الموضوع بإلغاء القرار السلبي بإلغاء ترخيص مجلة إبداع وغلق مقرها واعتباره كأن لم يكن وما يترتب علي ذلك من آثار وتنفيذ الحكم بمسودته دون إعلان وإلزام المدعي عليهم المصروفات.
وذكر المدعي شرحا للدعوي أن مجلة «إبداع» التي تصدرها الهيئة العامة للكتاب والتي يرأس مجلس إدارتها المدعي عليه الأول نشرت في عددها الأول في الصفحة الحادية والعشرين قصيدة مسمومة حقيرة لأحد الشعراء الذين تتبناهم لجنة الشعر بهذه المجلة ويتبني رئيس مجلس إدارتها أعمالهم، هذه القصيدة المستفزة تضمنت إهانة اللذات الإلهية والعياذ بالله بشكل لافت للنظر فأصابت مشاعر الناس بالمرارة والألم حيث يصف قائل هذه القصيدة الرب بأنه «قروي يزغط البط ويجس ضرع البقرة بأصابعه ويقول وافر اللبن» إلي غير ذلك مما حوته هذه القصيدة من إساءة بالغة لرب العالمين في تجاوز مستفز لجميع المقدسات والاجتراء علي الله تعالي وتحديه.
وأضاف المدعي أن المجلة التي نشرت هذا الإسفاف هي مجلة يجري تمويلها من قوت هذا الشعب من دافعي الضرائب وأنه تصدر عن الهيئة العامة للكتاب التي تتبع المدعي عليه الثالث وأن هذا التطاول علي الذات الإلهية المتصفة وحدها بالكمال المنزهة عن التشبيه والمثال، هذا التطاول هز مشاعر الناس، وأن أمثال هذا الشاعر المدعو حلمي سالم ومن يتبنونه يقصدون الشهرة من خلال التعرض بالإساءة إلي الله عز وجل طمعا في إثارة الفتنة والفوضي والاحتقان في الشارع المصري، والشعب المصري منهم براء بعد أن تأكد من أنهم عملاء وأنهم ليسوا إلا أبواقا تردد ما يطلبه الذين يدعمونهم بالمال من الخارج من أعداء الوطن حتي يثيروا الفتنة والفوضي بين شباب الأمة.
ومضي المدعي قائلا إن سحب ترخيص هذه المجلة باتت تستوجبه المصلحة العامة، حفاظا عل مشاعر المسلمين ودرءا للفتنة التي تثيرها هذه المجلة، وخلص المدعي إلي طلب الحكم له بطلباته السالفة البيان في صدر هذا الحكم.
وعينت المحكمة لنظر الشق العاجل من الدعوي جلسة 15/5/2007 حيث أودع المدعي اثنتين وعشرين حافظة طويت علي بعض ما نشرته الصحف المصرية والعربية تعليقا علي ما تضمنه الكلام المنشور في مجلة إبداع من إساءة، كما حوت هذه الحوافظ بعض المؤلفات، وبجلسة19/6/2007 أودع المدعي أصل صحيفة إدخال كل من شيخ الأزهر والنائب العام معلنة بتاريخ 15/3/2007، وفي ذات الجلسة أودع الحضور عن شيخ الأزهر حافظة طويت علي كتاب الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية المتضمن أن فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر قد اعتمد الرأي الذي خلص إليه الفاحص بخصوص ما حوته القصيدة المعنونة «شرفة ليلي مراد» المنشورة بمجلة إبداع وبجلسة 4/9/2007 أودعت هيئة قضايا الدولة حافظة ومذكرة دفاع خلصت فيها إلي طلب الحكم أصليا بعدم قبول الدعوي لانتفاء القرار الإداري، واحتياطيا بعدم قبول الدعوي لرفعها من وعلي غير ذي صفة ومصلحة وإلزام المدعي المصروفات في الحالتين.
وبجلسة 13/10/2008 أودع الأزهر الشريف حافظة طويت علي كتاب الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية المؤرخ 1/10/2007 المتضمن أن فضيلة شيخ الأزهر اعتمد التقرير الذي أعد بخصوص ما تضمنته تلك القصيدة المنشورة في مجلة إبداع وأن هذا التقرير خلص أن ما ورد بالقصيدة كلام لا معني له في أكثر فقراته ولم يتضح المعني إلا عند الإساءة إلي الرب كأن ذلك هو القصد ولا شيء غير الإساءة والكفر ونعوذ بالله من هذا الداء فكاتبه ملحد ينشر الإلحاد ويسميه إبداعا كوصفه الرب قروي يزغط البط، كما أودعت هيئة قضايا الدولة في هذه الجلسة مذكرة بدفاعها وحافظة طويت علي رد الهيئة المصرية العامة للكتاب المتضمن أن الهيئة ولئن كانت مع حرية الإبداع والفكر لكنها لا تقبل الإساءة إلي الأديان السماوية، وأنها لا تملك حق المصادرة، غير أنها اتخذت إجراءات فورية لمعالجة هذا الخطأ حيث أصدرت قرارا بوقف توزيع العدد الذي نشرت فيه هذه القصيدة وطلبت إجراء تحقيق لاستجلاء الحقيقة ومعاقبة المتسبب عن هذا التجاوز الجسيم، ورؤي استبدال الصفحة التي تتضمن هذه الأبيات المتضمنة للإساءات الواضحة للذات الإلهية وإعادة توزيع العدد من المجلة بعد حذف هذه الصفحة حتي يستفيد القارئ من المواد الثقافية الراقية التي يحويها وطرحه في الأسواق بعد حذف تلك الأبيات. وبجلسة 14/10/2008 أودعت الهيئة المصرية العامة للكتاب مذكرة بدفعها طلبت في ختامها الحكم بعدم قبول الدعوي لرفعها بغير الطريق القانوني الذي رسمه القانون رقم 3 لسنة 1996 بحسبانها من دعاوي الحسبة، كما طلبت الحكم بعدم قبولها لانتفاء صفة المدعي.
وأودعت هيئة مفوضي الدولة تقريرا بالرأي القانوني في الدعوي خلصت فيه إلي أنها تري الحكم بعدم قبول الدعوي لانتفاء القرار الإداري تأسيسا علي أن جهة الإدارة لا تملك إصدار قرار بإلغاء ترخيص تلك المجلة، حيث حظر ذلك صراحة قانون الصحافة بنصه علي حظر مصادرة الصحف أو إلغاء ترخيصها بالطريق الإداري، ومن ثم فليس هناك قرار إداري سلبي يمكن نسبته إلي جهة الإدارة، فضلا عن أن حالات إلغاء ترخيص الصحف والمجلات محددة علي سبيل الحصر في قانون تنظيم الصحافة. وبجلسة 3/3/2009 قررت المحكمة حجز الدعوي للحكم بجلسة 17/3/2009 ثم قررت مد أجل النطق بالحكم إلي جلسة 7/4/2009 لإتمام المداولة وفيها صدر الحكم وأودعت مسودته المشتملة مع أسبابه عند النطق به.
ومن حيث إن الدعوي باتت مهيأة للفصل في موضوعها بما يغني عن الفصل في الشق العاجل منها علي استقلال.
وحيث إنه عن الموضوع فإن المادة «1» من الدستور المصري تنص علي أن «يلتزم المجتمع برعاية الأخلاق وحمايتها، والتمكين للتقاليد المصرية الأصيلة، وعليه مراعاة المستوي الرفيع للتربية الدينية والقيم الخلقية والوطنية، والتراث التاريخي للشعب، والحقائق العلمية، والآداب العامة، وذلك في حدود القانون. وتلتزم الدولة باتباع هذه المبادئ والتمكين لها».
وتنص المادة «47» منه علي أن «حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول، أو الكتابة، أو التصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون والنقد الذاتي، والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني».
وتنص المادة «48» منه علي أن «حرية الصحافة، والطباعة والنشر، ووسائل الإعلام، مكفولة. والرقابة علي الصحف محظورة وإنذارها، أو وقفها، أو إلغاؤها، بالطريق الإداري محظور ويجوز استثناء في حالة إعلان الطوارئ أو زمن الحرب أن يفرض علي الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام رقابة محددة في الأمور التي تتصل بالسلامة العامة، أو أغراض الأمن القومي، وذلك كله وفقا للقانون».
كما نصت المادة «6» من هذا الدستور علي أن «الصحافة سلطة شعبية مستقلة تمارس رسالتها علي الوجهة المبين في الدستور والقانون» ونصت المادة «7» منه علي أن «تمارس الصحافة رسالتها بحرية وفي استقلال في خدمة المجتمع بمختلف وسائل التعبير تعبيرا عن اتجاهات الرأي العام وإسهاما في تكوينه وتوجيهه، في إطار المقومات الأساسية للمجتمع، والحفاظ علي الحريات والحقوق والواجبات العامة، احترام حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وذلك كله طبقا للدستور والقانون» ونصت المادة «8» منه علي أن حرية الصحافة مكفولة والرقابة علي الصحف محظورة وإنذارها أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور وذلك كله وفقا للدستور والقانون.
ومن حيث إنه إعمالا لأحكام الدستور فقد صدر القانون رقم 96 لسنة 1996 في شأن تنظيم الصحافة وتضمنت نصوصه ترديدًا مفصلاً وشاملاً لذات المبادئ التي سطرتها أحكام الدستور
ونصت المادة «3» منه علي أن «تؤدي الصحافة رسالتها بحرية وباستقلال، وتستهدف تهيئة المناخ الحر لنمو المجتمع وارتقائه بالمعرفة المستنيرة وبالإسهام في الاهتداء إلي الحلول الأفضل في كل ما يتعلق بمصالح الوطن وصالح المواطنين».
كما رددت المادتان 4، 5 من ذات القانون ما جاء بالدستور من حظر الرقابة علي الصحف كأصل عام وحظر مصادرتها أو تعطيلها أو إلغاء ترخيصها بالطريق الإداري، وألزمت المادة 18 من ذلك القانون الصحفي بأن يلتزم فيما ينشره بالمبادئ والقيم التي يتضمنها الدستور وبأحكام القانون مستمسكًا في كل أعماله بمقتضيات الشرف والأمانة والصدق وآداب المهنة وتقاليدها بما يحفظ للمجتمع مثله وقيمه وبما لا ينتهك حقًا من حقوق المواطنين أو يمس إحدي حرياتهم، وفرضت المادة من ذات القانون، علي الصحفي أن يمتنع عن الإنحياز إلي الدعوات العنصرية، أو التي تنطوي علي امتهان الأديان أو الدعوة إلي كراهيتها.
ومن حيث إن مفاد كل ما تقدم أن الدستور، وشايعته في ذلك أحكام قانون تنظيم الصحافة، سالف الذكر، كفل حرية الرؤي والتعبير عنها بكل الأوجه المتاحة وأفرد النصوص التي تنظم ممارسة مهنة الصحافة باعتبارها من أكثر الوسائل قدمًا وانتشارًا وثباتًا في ممارسة حرية التعبير، التي تعتبر انعكاسًا طبيعيًا لحرية التفكير التي أولتها الشرائع السماوية كل تقدير وإجلال كما أعطي الدستور، ومن بعده القانون، الصحافة هذا الاهتمام، لأنها كما هو معلوم لكل ذي بصر وبصيرة هي لسان حال الأمة المعبر عن آمالها وآلامها كما تعكس صورة نجاحها، وظلال إخفاقها وهي حسها النابض تجاه الأحداث والمؤثرات والرقيب علي الأداء العام لكل أجهزة الدولة، وذلك بوصفها سلطة شعبية مستقلة ومن ثم، فالأمل معقود بنواصيها لتكشف وجه الخلل والقصور للتنبيه والتحذير من أجل تقويم أي اعوجاج، فضلاً عن كونها أداة فاعلة ومؤثرة في تكوين وتنوير الرأي العام، وتربية الأجيال، ونشر المعرفة والثقافة، وتحقيق التواصل بين مختلف فئات وطبقات المجتمع كما لا يخفي علي كل إنسان المكانة التي اقتنصتها أجهزة الإعلام المختلفة ومنها الصحافة لنفسها حتي تزحزحت كل وسائل التربية والتكوين، بما فيها الأسرة، عن مكانتها فأصبحت سيطرتها علي العقول والنفوس بلا منازع لها، ولا قبل لمنافس بها وهي لذلك، وبحق، توجت «صاحبة الجلالة» التي تؤدي واحدة من أفضل الرسائل أن هي صلحت في أدائها وإن كان أبناؤها قادرين علي حمل الأمانة بشرف المهنة، وإخلاص النية، وعزم المسئولية.
ومن حيث إنه ولئن كانت الصحافة، التي تناولتها أحكام الدستور والقانون، حرة كل الحرية في أداء رسالتها إلا أن ذات النصوص التي منحتها تلك الحرية هي التي وصفت تلك الحرية بأنها الحرية المسئولة لخدمة المجتمع، الحرية التي تجد حدها الطبيعي في عدم إساءة استعمالها بما يمثل افتئاتا علي المقومات الأساسية للمجتمع التي أفرد لها الدستور الباب الثاني منه بأكمله، والتي تضمنت الأسرة، والدين، والأخلاق، والوطنية، والأمومة، وغير ذلك من ركائز
نقلا عن جريدة القاهرة العدد 468 لسنة2009 بتاريخ 14 ابريل 2009