ويقوم المعيار الموضوعي على أساس النظر إلى موضوع العمل نفسه

ويقوم المعيار الموضوعي على أساس النظر إلى موضوع العمل نفسه دون حاجة الى اعتبار بالسلطة التي يصدر عنها العمل ولهذا اهتم مؤيدوا هذا المعيار بوضع تمييز للعمل القضائي عن العمل الإداري بالنظر لموضوع العمل وعليه يتكون المعيار الموضوعي للوظيفة القضائية من عدة عناصر
 
أولها : ضرورة توافر مسألة قانونية أي نزاع حول حق ذاتي
وثانيا تقرير يقيم حدا للإشكال والنزاع .
ثالثا : قرار يصحب غالبا التقرير كما أن هناك من بين أنصار هذا المذهب من ابتدعوا بعض المعايير الموضوعية الأخرى لتمييز العمل القضائي كنظرية التصرف التلقائي ونظرية السلطة التقديرية ونظرية المنازعة ونظرية الهدف .

اولا : فكرة السلطة النقديرية : ذهب رأي قديم الي ان القرارات الادارية انما تصدر من سلطة تتمتع بإختصاص تقديري ، بينما تصدر الاحكام من سلطة ذات إختصاص مقيد . وهذا الراي لاغناء فيه ، لاننا راينا أن الادارة تصدر كثيرا من القرارات الادارية بينما يكون اختصاصها مقيدا. و علي العكس من ذلك فان القاضي كثيرا ما يتمتع بقدر كبير من حرية التقدير .


ثانيا : وقال اخرون بأن القرارات الادارية تصدر عن تصرف تلقائي أما الاحكام فلا تصدر الا بطلب من الافراد . وهذا ايضا ليس بمعيار ، لان كثير من القرارات لا تصدر الا بطلب من الافراد .

ثالثا : المعيار الذي يستند الي موضوع العمل : و يعتبر العمل قضائيا وفقا لهذا الراي اذا كانت السلطة العامة تفصل بمقتضاه في حق كان موضع منازعة أمامها : فيجب أن يكون ثمة نزاع في حق شخصي ، وقد فصلت فيه سلطة عامة للقول بوجود عمل قضائي .

وقد انتقد هذا المعيار من ناحيتين : الاولي أن هذا النزاع قد يطرح علي سلطة إدارية لتفصل فيه بقرار إداري لا يحكم . كما أن من الاحكام ما لا يثير نزاعا متعلقا بحق شخصي . ومثال ذلك الاحكام الصادرة من القضاء العيني أو الموضوعي كقضاء الإلغاء الذي لا يتصدي  إلا للفصل في شرعية قرار إداري ، بصرف النظر عن الحقوق الشخصية .
ومثال ذلك أيضا الأحكام الجنائية .
ومن ثم فقد أضيف إلي المعيار السابق عناصر أخري تتعلق بالغرض من العمل و بتكوينه .

رابعا – تحديد العمل بناء علي الغرض منه : فالادارة بتدخلها إنما تستهدف إشباع الحاجات العامة سواء تعلق ذلك بالامن الداخلي أو الخارجي أو الصحة أو التعليم .... إلخ .


أما وظيفة السلطة القضائية فترمي الي مجرد حماية النظام القانوني للدولة ، بغض النظر عن الاغراض التي نيط بالإدارة تحقيقها ، وذلك عن طريق حسم المنازعات وفقا للقانون ، و توقيع الجزاءات علي كل مخالفة لآحكامه .
وقد ترتب علي ذلك ، أن طبع الغرض الذي تستهدفه كل من الادارة و القضاء ما يصدر منهما من أعمال بطابع خاص مميز : فالادارة وظيفتها مرنة ، ومن ثم كان القرار الاداري مرنا يستجيب بسهولة لمقتضيات حسن الادارة .

أما العمل القضائي فيمتاز بالثبات ، ومن ثم فقد طبع بأثر هام جدا ، و هو حجية الشئ المقضي فيه فالحقيقة التي لا يمكن إنكارها أن فكرة الحجية هي أبرز المظاهر التي تميز الحكم القضائي عن القرار الاداري : فالقرار الاداري مهما بلغ استقراره فانه استقرار نسبي . أما الحكم القضائي فيجب أن يكون عنوان الحقيقة المطلقة على ما جاء به . وهذا هو جوهر الحجية . وإذا كان القرار الإداري يشبه بعض الاحكام القضائية أحيانا ، فان المشرع حر في أن يرتب علي أي منهما حجية الشئ المقضي فيه فيصبح العمل قضائيا . و هذه الحجية كما ذكرنا ، ذات إرتباط وثيق بالغاية من كل التصرف الاداري و القضائي .

ويقوم المعيار المحتلط على أساس المزج بين المعيارين السابقين حيث ينظر إلى طبيعة العمل نفسه من ناحية والشكل الذي يظهر فيه العمل من خلال الضمانات والاجراءات اللازمة لأي عمل قضائي .

ثالثا : أحكام القضاء فيما يتعلق يالتمييز بين القرار الإداري والعمل القضائي
جري القضاء الإداري المصري في اول الامر علي التزام معيار موضوعي فيما يتعلق بالتمييز بين القرار الاداري والعمل القضائي . ومن اوضح احكامه في هذا الصدد حكمه الصادر في 15/6/1948 حيث يقول : " يشترط في القرار القضائي ايا كانت السلطة التي تصدره توافر شروط ثلاثة : الأول قيام خصومة بين طرفين , والثاني أن تقوم هذه الخصومة علي مسألة قانونية , والثالث أن يكون للقرار عند الفصل في الخصومة قوة الشئ المقضي فيه , وبمعني اوضح ان يعتبر عنوان الحقيقة فيما قضي به ومنها ايضا حكمه الصادر في اول يونية سنة 1953 والذي جاء فيه : " ان المعيار الذي وضعه شراح القانون الاداري وفقهاؤه للتمييز بين العمل القضائي والقرار الاداري ان الاول يصدر بعد ادعاء مخالفة , ويفصل فيه من هيئة ليست طرفا في النزاع القائم ويحسم علي اساس قاعدة قانونية خصومة قضائية فيما بين طرفين تتعلق بمركز قانوني خاص .

ولكن مجلس الدولة في حكمه الصادر في 17 نوقمبر سنة 1953 قد اجاز الطعن بالالغاء في الاوامر علي العرائض التي يصدرها قاضي الامور الوقتية , لأن هذا الامر يدخل في سلطة القاضي الولائية لا القضائية , اذا لم تقم الخصومة بعد وواضح ان هذا الحكم ياخذ بالمعيار الموضوعي لاقصي حد .

أما الأعمال القضائية التي تصدر من جهات ادارية ذات اختصاص قضائي فان مجلس الدولة قد اخذ في شأنها بالمعيار الشكلي , وبالتالي اعتبرها بمثابة قرارات ادارية يجوز الطعن فيها بالالغاء . وقد تبني المشرع هذا المسلك في قوانين مجلس الدولة ابتداء من قانونه الصادر سنة 1949 . وقد سبق ان اوردنا نص الفقرة السابق في المادة العاشرة من القانون رقم 47 لسنة 1972 بهذا الصدد .

غير ان محكمة القضاء الاداري – في احكام اخري هجرت المعيار الموضوعي المجرد ورجحت عليه معيارا يجمع بين الشكل والموضوع . وقد تجلي هذا الاتجاه في حكم محكمة القضاء الاداري الصادر في 13 ديسمبر سنة 1954 حيث تقول " ان شراح القانون العام قد اختلفوا في وضع معايير للتفرقة بين القرار القضائي والقرار الاداري : فمنهم من اخذ بالمعيار الشكلي . ويتضمن ان القرار الاداري القضائي هو الذي يصدر من جهة منحها القانون ولاية القضاء .

 
ومنهم من اخذ بالمعيار الموضوعي , وهو ينتهي الي ان القرار القضائي هو الذي يصدر في خصومة لبيان حكم القانون فيها . بينما ان اخرين يرون ان يؤخذ بالمعيارين معا -  الشكلي والموضوعي – وقد اتجه القضاء في فرنسا ثم مصر الي هذا الرأي الأخير , وأن الراجح هو الآخذ بالمعيارين معا مع بعض الضوابط , وذلك ان القرار القضائي يختلف عن القرار الاداري في ان الاول يصدر من هيئة قد استمدت ولاية القضاء من قانون محدد لاختصاصها مبين لاجراءاتها , وما اذا كان ما تصدره من احكام نهائية او قابلة للطعن مع بيان الهيئات التي تفصل في الطعن في الحالة الثانية , وان يكون هذا القرار حاسما في خصومة اي في نزاع بين طرفين , مع بيان القواعد القانونية التي تنطبق عليه , ووجه الفصل فيها " بل ان المحكمة قد اعلنت في حكمها الصادر في 24 يناير سنة 1955 ان محكمة القضاء الاداري "..
 
قد استقر رأيها علي الاخذ بالمعيارين الشكلي والموضوعي للتفريق بين القرار القضائي والقرار الاداري"

( إن المعيار الذي وضعه شراح القانون الإداري وفقهاؤه للتمييز بين العمل القضائي والقرار الإداري أن الأول يصدر بعد إدعاء مخالفة للقانون ويقصل فيه من هيئة ليست طرفا في النزاع القائم ويحسم على أساس قاعدة قانونية هي اعتباره خصومة قضائية فيما بين طرفين تتعلق بمركز قانوني خاص، ولما كانت هذه الخصائص لا تتوافر في الجزاء التأديبي ، ذلك لأن جهة الإدارة التي توقع الجزاء تعتبر طرفا في النزاع ولأن قرارها لا يحسم خصومة بين طرفين متنازعين ، فلا يمكن والحالة هذه اعتباره قرارا قضائيا قي موضوعه وإنما هو قرار إداري فردي يخضع لما تخضع له القرارات الإدارية عموما من سحب وتعديل وإلغاء ، ومن مقتضى ذلك قطع سريان ميعاد رفع الدعوى إلى المحكمة فيما يتعلق بطلبات الإلغاء في حالة التظلم إلى الهيئة الإدارية التي أصدرت الجزاء التأديبي أو الهيئة الرئيسية التي تشرف عليها )

" محكمة القضاء الإداري الدعوى رقم 10 لسنة 6 ق جلسة 1/5/1953 – 7/717/1390"   

اما المحكمة الادارية العليا فقد ترددت في خصوص المعيار الذي يتعين اتباعه لتمييز العمل القضائي : ففي حكمها الصادر في 26 ابريل سنة 1960 تاخذ المحكمة بمعيار موضوعي حيث تقول : " ان القرار القضائي هو الذي تصدره المحكمة بمقتضي وظيفتها القضائية ويحسم علي اساس قاعدة قانونية خصومة قضائية تقوم بين خصمين تتعلق بمركز قانوني خاص او عام , ولا ينشئ القرار القضائي مركزا قانونيا جديدا , وانما يقرر في قوة الحقيقة القانونية وجود حق او عدم وجوده , فيعتبر عنوان الحقيقة فيما قضي به متى حاز قوة الشئ المقضي به , ويكون القرار قضائيا متي توافرت له هذه الخصائص ولو صدر من هيئة لا تتكون من قضاة وانما اسندت اليها بسلطة قضائية استثنائية للفصل فيما نيط بها من خصومات .

وعلي العكس من ذلك , فان القرار التأديبي لا يحسم خصومة قضلئية بين طرفين متنازعين علي اساس قاعدة قانونية تتعلق بمركز قانوني خاص او عام وانما هو ينشئ حالة جديدة في حق من صدر عليه , شانه في ذلك شان كل قرار اداري , ولو صدر القرار التأديبي من هيئة تتكون كلها او اغلبها من قضاة , اذ العبرة كما سلف القول هو بالموضوع الذي صدر فيه القرار , فما دام هذا الموضوع اداريا كالتأديب مثلا فالقرارات التي تصدر فيه تكون بحكم اللزوم ادارية , ولا تزايلها هذه الصفة لكون من اصدرها قضاة كالجزاءات التأديبية التي يوقعها رؤساء المحاكم في حق موظفيها من كتبة ومحضرين , اذ تعتبر قرارات تأديبية لا قضائية ."

ومما له دلالته في هذا الصدد , ان حكم المحكمة الادارية العليا المشار اليه , قد صدر في خصوص القرارات التأديبية الصادرة من مجالس تأديب , إذ عامل هذه القرارات معاملة الأحكام الصادرة من المحاكم التأديبية الجديدة المكونة وفقا للقانون رقم 117 لسنة 1958 , استنادا الي ان القرارات والأحكام التأديبية , ذات طبيعة واحدة , بالنظر الي موضوعها , فهي – وفقا للمعيار الموضوعي -  قرارات لا أحكام .

ولكن المحكمة الإدارية العليا في حكمها الصادر في 11 مارس سنة 1965 ( س 10 , ص 910 ) قد اخذت بالمعيار الشكلي في خصوص تمييز القرار الذي يجوز طلب الغائه امام مجلس الدولة في قضية تتلخص ظروفها فيما يلي : صدر القانون رقم 207 لسنة 1955 بفتح اعتمادات اضافية في ميزانيات الدولة وجامعتي الاسكندرية وعين شمس للسنة المالية 54/55 , ونص في مادته الثانية علي ان يفتح في ميزانية السنة المالية 54/55 قسم 9 وزارة التربية والتعليم فرع 1 الديوان العام والمناطق باب 1 ( ماهيات واجور ومرتبات ) اعتماد اضافي لمواجهة تكاليف الوظائف المنقولة اليها من جامعة القاهرة حسب الجدول المرافق رقم 2. وورد اسم الطاعن في هذا الجدول , فكأنه نقل من جامعة القاهرة إلي وزارة التربية والتعليم بالقانون , وقيل بأن قرار فتح الاعتماد هو عمل اداري ولو صدر في شكل قانون . ولكن المحكمة الإدارية العليا رفضت ذلك بقولها " ومهما قيل في وصف هذا العمل بأنه من الأعمال الإدارية التي تصدرها سلطة التشريع في صورة قانون , فإن هذه المحكمة لا يسعها إلا تغليب المعيار الشكلي , ومقتضاه ولازمه ان يكون لقانون ربط الميزانية حصانات القانون العادي . وقد قالت ان اسم المدعي ورد في الكشوف الملحقة بالقانون ..... ومن ثم فإن ما ورد في هذه الكشوف هو جزء لا يتجزأ من القانون , ويندرج في مضمون أحكامه , ولا عبرة بعد ذلك بأن يكون هذا القانون غير منطو علي قاعدة عامة مجردة , لأنه يكفي من ناحية الشكل أن يكون صادرا وفقا للاجراءات الدستورية المتبعة بالنسبة الي سائر القوانين مما لا يجوز معه الطعن فيه او التقرير باختصاص القضاء الاداري بالنظر فيما تضمنه من احكام .

والخلا صة ان هذا الموضوع رغم كثرة المعايير الحاسمة التي صدرت من محكمة القضاء الإداري والمحكمة الإدارية العليا في خصوصه , ما يزال في طور التبلور .      
 
ولأن موضوع دعوانا هو في جوهره يتعلق بقرار صادر من محكمة ومن ثم كان لزاما علينا أن نحاول جاهدين البحث في معايير التفرقة بين القرار الإداري والعمل القضائي خاصة وأن القرار المطعون فيه صادر من محكمة فإذا ما تم الأخذ بالمعيار الشكلي فقط كان يخرج عن ولاية القضاء الإداري أما إذا أخذنا هذا القرار وفق أيا من المعيارين الموضوعي أو المختلط لجاز لنا القول أننا لسنا أمام  عمل قضائي وإنما نكون أمام قرار إداري  وتبيان ذلك على النحو التالي :-

-    أن القرار المطعون فيه وفقا للمعيار الموضوعي  للوظيفة القضائية لا تتوافر فيه مسألة قانونية أو نزاع حول حق ذاتي لأن ما أصدرته المحكمة هو حظر لنشر وقائع الجلسات ولم يصاحب ذلك جعل الجلسة سرية بل أن الأمر تجاوز ذلك إلى السماح لوسائل الاعلام بنشر قرارات المحكمة .
-    ونضيف إلى ما تقدم أن حظر النشر هنا هو حظر انتقائي ومعنى ذلك أنه يحق لأي شخص حضور الجلسة ومشاهدة وقائعها ومتابعتها فضلا عن حقه في نقل ما يشاء لمن يشاء خارج القاعة شريطة أن لا يكون في وسائل الاعلام المقروءة والمسموعة والمرئية وغيرها من طرق النشر أي أنه إذا لجأ إلى أي طريقة من غير طرق النشر فإن ذلك لا يناله قرار حظر النشر .
-    أن حق المحكمة وفقا لنص المادة 190 عقوبات هو مرهون أن يكون الحظر في سبيل المحافظة على النظام العام أو الآداب
-    ونحن إذ نطرح هذا الموضوع على الهيئة الموقرة فإننا ومنعا للإطالة نتمسك بكل ما ورد بعريضة هذه الدعوى أو بصحف الدعاوى الأخرى المنضمة

بناء عليه
فإن الطاعنين والمتدخلين  يلتمسون القضاء لهم في الشق العاجل بوقف تنفيذ القرار المطعون فيه  وهو القرار الصادر الدائرة الثالثة – محكمة جنايات جنوب القاهرة – الصادر بتاريخ 16/11/2008 فيما تضمنه من حظر نشر وقائع الجلسات في الجناية رقم 10205 لسنة 2008 جنايات جنوب القاهرة مع ما يترتب على ذلك من آثار مع الأمر بتنفيذ الحكم بمسودته الأصلية دون إعلان

طاهر أبوالنصر
المحامي

------------------------------------------
المراجع
الموسوعة الشاملة في القضاء الإداري المستشار الدكتور محمد ماهر أبوالعينين
موسوعة القضاء الإداري المستشار ياسين حمدي
موسوعة القضاء الإداري د/ محمد سليمان الطماوي